الاثنين، 21 مايو 2012

تأملات ورسائل من خلف النقاب



ريم بالنقاب في الجامعة الأمريكية
(الموضوع منشور في جريدة القافلة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة بتاريخ: 6 مايو 2012)

كتبت – ريم جهاد 

صعدت إلى اوتوبيس الجامعة في الخامسة عصراً، وقررت أن أجلس في أول كرسي، وحدي، على يساري السائق الأسمر العجوز، ومن أمامي السماء مفتوحة على مصراعيها، غارقة في نور الشمس التي ستودع الدنيا عما قريب. أسندت رأسي إلى الخلف، أغلقت عيني، وتركت النور يغمر وجهي هادئاً مرتاحاً. 

فقد كان مخفياً طيلة اليومين الماضيين خلف نقاب أسود ارتديته، فأصبحت شبه مخفية، ومارست يومي كطالبة عادية في أرجاء الجامعة، أحضر محاضراتي، أجلس في المكتبة، آكل في أماكن مختلفة، أتحدث إلى أصدقائي، وأزور سكرتيرة مكتب الكلية – كل أنشطة أي طالب عادي، ولكن من خلف من خلف النقاب الذي جعل أقرب أصدقائي لا يتعرفون عليّ.

لكني رأيت الجميع، وعرفت الجميع، وقد جعلني هذا أنسى ما يرى الناس مني في المقابل، وكنت أفاجئ كل مرة ألمح فيها نفسي على لوح زجاجي أو شاشة حاسوب سوداء. عرفني البعض من صوتي، وعرفني آخرون من يدي أو ساعتي فقد نسيت أن أشتري قفازات لـ"أسبك" هذه التجربة الاجتماعية التي قمت بها لجريدة (القافلة) لنعرف رد فعل مجتمع الجامعة الأمريكية تجاه وجود طالبة منتقبة بينهم. 

في صباح اليوم الأول صعدت إلى الاتوبيس وأنا في كامل حلة النقاب، شعرت بنظرات الناس الذين تربطني بأغلبهم علاقة جيدة، لكني لم أجرؤ أن أسلم على واحد منهم، أحسست بعيونهم المتفحصة وأنا أمشي في الممر في لحظات طويلة ثقيلة، وتبادر إلى ذهني كل ما اتوقعه من يومي الذي لم يبدأ بعد، وأردت أن أختفي. 

وعندما جلست أخيراً شعرت أن ما أقوم به هو أسوأ ما فعلته في حياتي، وكتبت رسالة إلى رئيسة تحرير (القافلة)، أخبرها بذلك، لكني الآن بعد أن خضت التجربة أستطيع القول أنها كانت من أفضل ما فعلته أبداً. 

على الأقل هناك شيء واحد قررته بعدها وهو أني سأبتسم لأي سيدة منتقبة أراها في الجامعة أو في أي مجتمع مشابه، سأبتسم لها حتى إن لم أرها تبادلني الابتسام لأني أعرف الآن نظرات التعالي ونظرات الاشمئزاز التي تتلقاها، وأعرف معاملة البعض لها، وبفضل زملائي في (القافلة) أعرف ما يقال عنها من وراء ظهرها أيضاً.

عندما وصلت إلى الجامعة وقفت في طابور انتظار التفتيش الأمني، وعيون الكثيرين تنظر لي في فضول، عندما أعطيت رجل الأمن بطاقتي الجامعية طلب مني الانتظار حتى تكشف على وجهي سيدة الأمن الواقفة على البوابة. وعندما وقفت معها على جنب قلت لها أني ريم، فهي تعرفني، فاحمر وجهها ورفعت كفها إلى فمها تسألني "انتي عملتيها؟!" فأومأت رأسي بالإيجاب وطلبت منها ألا تجعلني أرفع النقاب، فكنت أحس بالجميع يختلس النظرات إلينا، فجعلتني أذهب. 

لكني اضطررت إلى خوض تفتيش آخر وأنا أدخل إلى المكتبة على الرغم من أني أخبرتهم أن الأمن على البوابة فتشني قبل دخولي، لكنهم طلبوا من إحدى السيدات العاملات في مكتب الاستقبال الكشف عن وجهي، فأخذتني خلف أرفف الكتب وجاملتني قائلة أن وجهي جميل، ثم قالت وأنا أضع النقاب مرة ثانية "ربنا يكرمك يا رب." 

كانت محاضرتي الأولى هي التاريخ العربي مع دكتورة هدى السعدي، تنفست بعمق في طريقي إلى المحاضرة، وعندما وصلت أسندت يدي إلى هيكل الباب ونظرت إلى الطلاب في الداخل، لم يكونوا كثيرين، فدخلت ونظراتهم الدهشة تحاوطني، وعندما وصلت دكتورة هدى نظرت إليّ عدة مرات لكنها لم تعرف من أنا حتى  أخذت الحضور والغياب، ثم أكملت المحاضرة بشكل عادي، لكني كلما تحدثت نزل صمت مطبق على الجميع على الرغم من أني نفس الفتاة التي كانت تتحدث قبل ذلك في نفس الغرفة، مع نفس الأشخاص، عن نفس الموضوع. 

لاحقاً في كليتي – كلية الصحافة والإعلام – دفعتني سلمى سليم إحدى محرري (القافلة) على الدخول إلى رئيسة القسم مرفت أبو عوف، ودقت على باب مكتبها بينما كنت أحاول منعها قائلة "هي لا تعرفني، لا أعرف ماذا سأقول!" وعندما انفتح الباب اختفت سلمى، وكانت دكتورة أماني اسماعيل، مساعد رئيسة القسم، في الداخل فتذكرت أني أجريت حواراً مع دكتورة مرفت مؤخراً فقلت لها: "دكتور مرفت حضرتك مش فاكراني؟ أنا عملت حوار معكي للقافلة من كذا أسبوع." 

نظرت إليّ دكتورة مرفت في دهشة وقالت لي "لأ مش فاكراكي، شيلي النقاب،" فأغلقت دكتورة أماني الباب ورفعت النقاب لكنها لم تتذكرني، وعندما قلت لها أني أقوم بتجربة للقافلة حكت لي عن طالبة منتقبة كانت تدرسها في السابق قائلة إنها كانت تطلب منها أن تجلس في آخر قاعة المحاضرات وترفع النقاب عن وجهها، وعللت ذلك قائلة "كيف لي أن أعرف إذا كانت تفهمني أو لا؟ إذا كانت مستيقظة أو نائمة؟" وأضافت أبو عوف إن علاقتها كانت طيبة مع هذه الطالبة التي كانت محجبة في البداية ثم قررت أن تنتقب، لكنها كانت تحتاج أن تتواصل معها أثناء المحاضرة. 

في محاضرة الكتابة الصحفية أبدت الدكتورة رشا الابياري استغرابها وقلقها من ارتدائي للنقاب قائلة إنها لا تدعم النقاب لأكثر من سبب، أولاً هي أنها لا تشجع حق المنتقبة في رؤية كل شيء فيما تحرم هي الآخرين هذا الحق، كما قالت الدكتورة رشا إن النقاب ليس من الدين الاسلامي ويسبب الكثير من المصاعب للتي ترتديه فلا داعي لأن تعرض نفسها لهذا الوضع.

لكن المحاضرة التي كنت أنتظرها بفارغ الصبر كانت محاضرة "الكاتب والسلطة" مع الدكتور السيد فضل الذي كثيراً ما يبدي اختلافه مع "الاسلام السياسي." وكنت أتوقع أن يناقش الدكتور فضل موضوع النقاب في المحاضرة، وتخيلت سيناريو كامل توقعت أن يشارك فيه زملائي ذوي الخلفيات المتنوعة، فتخيلت لسعد الشاطر دوراً، ولمحمد، الذي كان كثيراً ما يدافع عن جهاز الداخلية لسبب لا أعرفه، وتوقعت أن تشارك مريم أبو غازي، وتوقعت أيضاً أن يشارك الثلاث فتيات اللاتي يجلسن دائماً في آخر صف ونسمع ضحكاتهن وسخريتهن تأتي من الخلف. 

لكن توقعاتي كلهاخابت، فعندما دخل دكتور فضل ورآني سألني إذا كنت طالبة جديدة، ولن أنسى عدد المرات التي قلت له فيها أنا وزملائي أني "ريم جهاد" وبدا على وجهه أنه لا يصدق، لكنه لم يقل شيئاً غير "هذا تطور جديد يا ريم" وأكمل المحاضرة بشكل طبيعي. 

أعطيت ورقة لصديقتي كتبت فيها "بس كده؟" فضحكت، وصممت أن أفتح الموضوع مجدداً فرفعت يدي لأعلق على عرض شفهي قام به أحد الزملاء، عندما بدأت بالحديث حاول مجموعة من الطلاب كتم ضحكاتهم فرفع الدكتور فضل يده في جدية وسكت الجميع، قلت تعليقي وانتهى الأمر. 

ذهبت بعد المحاضرة إلى الدكتور فضل وسألته ما إذا كان درس أي طالبة منتقبة في الجامعة الأمريكية قبل ذلك فقال "أبداً" وعندما سألته عن رأيه قال لي "هذه ليست أول مرة تعرفيني فيها يا ريم، لو أرادت ابنتي ارتداء النقاب لن أكون راضياً، لكني لن أمنعها." 

في طريق عودتي إلى مكتب تحرير (القافلة) قابلت صديقتي وزميلتي في الجريدة مارينا برسوم، وكانت بصحبة صديقة لها نظرت إلي باستغراب طيلة الوقت وأنا أتحدث مع مارينا، ولاحقاً حكت لي مارينا أن صديقتها كانت تشعر بالاشمئزاز وأنها لم تستسغ وجود طالبة منتقبة في الجامعة قائلة في سخرية "لذيذة هي قوي كده وسطينا." 

لكنها لم تكن الوحيدة، كنت أتلقى نظرات متعالية طيلة الوقت، ولاحظتها أكثر عندما اشتريت الطعام من "ترويقة" وتمشيت في أرجاء الجامعة أتناوله تحت النقاب. عندما كنت مع أصدقائي كان أصدقائهم يترددون في الحديث إليهم، عندما وقفت أمزح مع صديق لي في المكتبة كان هناك طالب جالس لا يعرفني ولا يعرفه وظل يسمع حديثنا في استغراب حتى التفت إليه وقال: هي عايزة ايه دي؟ 

في مكتب الكلية سألتني إحدى الموظفات ما إذا كنت قد تزوجت، وقالت لي إن غالبية صديقاتها اللاتي ارتدين الحجاب أو النقاب فعلوا ذلك تحت تأثير أزواجهم، بل أن صديق لي أخبرني بعدما تغلب على دهشته واستوعب الأمر أنه ظن أني تعرفت على شاب سلفي "لعب في دماغي."

وكنت قد ذهبت إلي كل محاضراتي بدون أن أتحدث مع أساتذتي قبلها، وفاجاءتهم في الصف، لكني قررت أن أذهب لأشرح الموضوع لأستاذ الفوتوغرافيا الدكتور روني كلوز الذي يقضي فصله الدراسي الأول في الجامعة وفي مصر، وكنت قد ذهبت إلى ميدان التحرير يوم الجمعة 27 أبريل لألتقط بعض الصور لمشروعي النهائي وتحدثت إلى الدكتور كلوز عن تعصب بعض السلفيين وعدم ترحبيهم بي، وطلب مني أن آخذ حذري.

ثم دقيت على باب مكتبه  في ذلك اليوم وأنا أرتدي النقاب. نظر إليّ وعرفني فوراً من صوتي، لكنه لم يبد الكثير من الدهشة مما أدهشني أنا – فلم يكن لدي خطة مسبقة لهذا الأمر.

قال لي ضاحكاً "هل اعتنقتي ديناً جديداً؟ هل أنتِ هكذا منذ الجمعة الماضية؟" 
لم أجد بداً من شرح الأمر له ببساطة وقد تقبله في هدوء.

لكن في المحاضرة ناقشتني العديد من الفتيات في قراري وحاولوا اقناعي بعدم ضرورة النقاب قائلين أشياء مثل "هل تعرفين أن لا أساس له في الاسلام؟" كما بدا لي أنهم ربطوا الأمر بانتشار الحركة السلفية في مصر، وأني قمت بشيء كانوا خائفات منه. 
كما شعرت أنهم توقعوا أن أكون عدائية تجاههم يعلقون سريعاً "ماتفهمينيش غلط" و"ماتضايقيش مني" و"أنا أسفة، أنا بسأل بس." 
عندما أخبرتهن بحقيقة الأمر في نهاية المحاضرة وضعت إحدى الفتيات يدها على صدرها وتنهدت بارتياح. 

في نهاية اليوم الثاني كنت قد أنهيت مهمة النقاب فغيرت ملابسي قبل أن أغادر الجامعة، لم أشعر أني أكثر حرية – كما كنت أتوقع أن أشعر – بل شعرت فقط أني عدت لأكون نفسي. 

لكن يجب عليّ أن أعترف أني لم أكن راضية عن عدم استطاعتي الابتسام في وجوه الناس، لأنهم لم يكونوا يروني من خلف النقاب، وكنت كلما رأيت أحد أعرفه أنادي عليه لأستطيع الحديث معه. 

كما شعرت بصعوبة في التنفس، وظل شعور يباغتني في اليوم الثاني برفع النقاب واستنشاق الكثير من الهواء أملأ به صدري، لكني لم أستطع، وأظن أن ذلك كان ما جعلني أشعر بالتعب الشديد في نهاية اليوم. 

على أية حال أنا أريد أن أشكر كل الفتيات اللاتي باركن لي، وشجعنني، واللاتي أيضاً دعونني إلى إجتماعات دينية، أنا أقدر ذلك جداً، ولكني أظن أنه لا ينبغي عليّ أن أرتدي النقاب ليتم دعوتي إلى لقاء ديني، فتغطية وجهي لا تثبت أي شيء عن مدى إيماني، كما أن كوني غير محجبة في حياتي العادية لا يعني أني لن أكون مهتمة بحضور لقاء من هذا النوع. 

ومن ناحية أخرى، ولكم جميعاً، لا يجب عليّ أن أبدو مثلكم لتصدرون حكماً عليّ بأني "مقبولة" بينكم.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

الحمد لله على نعمة الاسلام'زادك الله تباتا ونورا'ورزقناواياك الجنة