الاثنين، 16 يوليو 2012

أحن إلى الوجود


(مقال منشور ضمن ملف "الحنين" في مجلة الثقافة الجديدة - عدد يوليو 2012) 

لن أكذب وأقول أني أشعر بالحنين لطفولتي، عندما كان العالم صغيراً، جميلاً، ومفهوماً، أو أني أحن إلى أيام المدرسة، أو إلى حبي الأول، إلى عينيه السمراوتين تأخذاني في  دروب من الشمس لا نهاية لها، أو إلي قصص عشقي الطفولية، عندما عرفت غرامي بالأدب، فأغرمت بكل من درسوني الرواية والنقد والشعر أيام مراهقتي الأولى، أو أني أحن إلى بيتنا القديم، أو إلى غناء جدتي، أو الفطير المشلتت، أو إلى الركوب من الهرم إلى مصر الجديدة بعشرة جنيهات فقط.. قد أحن إليها جميعاً، لكني أحن، أكثر ما أحن دائماً، إلى وجودي.

 والوجود كلمة صعبة، حيرت الكثيرون على مر السنين، وتحيرني، وتتعبني لأني أحاول النفاذ إلى حقيقتي فتهرب مني ولا أجدها، بحثت عنها عندما قررت أن أعمل في الصحافة، فوجدت بعض منها، وبحثت عنها عندما قررت أن أبدأ دراسات في الأدب العربي، فوجدت البعض الآخر، وبحثت عنها عندما تمشيت في شوارع وسط البلد، وعندما اشتركت في جمعية خيرية، وعندما بكيت في السينما، وعندما صعدت جبل موسى، وعندما شعرت بفشلي في كل شيء، وعندما كتبت، وعندما نظرت ذات ليلة في المرآة فارتبكت إذ رأيت عينا أمي تطلان عليّ، بحثت كثيراً، لكني دائماً غير مكتملة.

أحن للشعور أني حقيقية، أني موجودة، وأن أشعر بنفسي، أن أشعر بيديّ حقاً، أن أنصت لصوتي يسري بداخلي فعلاً، أن أحس فجأة بأفكاري، أن أنفذ من جدران قلبي، وأشعر بكياني نفسه، أشعر به حراً بإرادته، وبنفسي تتلون بأعمق ذكرياتي، لكنه أمر نادر، ومخيف، فنحن نفضل دائماً أن نترك أنفسنا لبحور الأيام، ودهاليز الحياة، نظن أننا موجودون، وأننا نعيش كما يجب، ونرى الدنيا كما هي، لا نعي أننا نغرق في وهم لا نهاية له، فكم منا ينظر ملياً إلى نفسه في المرآة؟ أحياناً أشعر بشيء غريب عندما أنظر إلى نفسي ملياً لعدة دقائق، أحاول فهم أن هذا الجسد وهذه العيون هي "أنا".. وأشعر أني لم أرهم مطلقاً في حياتي من قبل، وأكتشف أني لم أكن موجودة، أني كنت أطير على سطح الحياة، منهمكة، مشغولة، لا أرى عمقها ولا أرى عمق نفسي.

ولا أعرف متى يتحقق هذا الإحساس الكامل بالوجود – هل بالحب؟ هل بالسفر؟ أم العزلة؟ أم الموت؟ ليس لدي إجابة، ولكني أعرف أني شعرت بشيء أنساني الدنيا وما عليها، وأشعرني بشيء ربما يشبه الوجود.

وهو إحساس يأسرني، لا أشعر به مكتملاً أبداً إلا في لحظات عابرة، وحينها أشعر بتهدم الكون من حولي، كأنه لم يكن، وأشعر بسكون دفين يغمرني، وأشاهد الناس كأني أتفرج عليهم من بعيد، ربما حدث ذلك في لحظة إيمان شديدة الخشوع، شديدة التجلي، نادرة، أو في دفقة حب نقية للدنيا، لكني غالباً أرتطم بوجودي في أقصى حالات الصخب..

في قاعة تنتفخ بالبشر، تضج بالموسيقى العالية، خشخشة الآلات، ودقات الطبول، نداءات الأوتار، وصوت يغني دون هوادة.. أياد تصفق، وعيون تتابع أنفسها، وتتابع الجميع، وتتابعني.. شفاه تبتسم، وعقول تنكب على نسج الحكايا، وحياكة الأماني، واللذات، وتهريب الصيحات، وتسجيل الذكريات، وتطييب الأحزان، وتزييف صور الحنق والخجل والنفاق.. أرجل تأتي وتذهب، وتقوم للرقص، وتتأهب للغياب، وتشير بالقلق، أو الطرب، ضحكة تلو الأخرى، نداء يشد نظرة، وكأس يذيب قلب.. وهناك وجود يراقب، وآخر يحيي كل شيء، ولا يراه أحد.. ثم يدخل رجل، يحمل تنورة ملونة حول وسطه، ويبدأ في الدوران، ويدور، ويدور، يتحرك في دوائر بلا نهاية، كأنه في عالم آخر، ولا يدور الصخب من حوله، يتلحف وجوداً قدسياً، عالياً، خاصاً، يأسرني، تتشبث عيوني بدوائره، تضمه تنورته بين أطرافها الطائرة المنحنية، وتدور، مرة، ومرة، ومرة أخرى، وأنا – فجأة – يدب في كياني الصمت، ويغرقني السكون.

وعندها – أو ربما تدريجياً – أرسو في مكان ما، لا أسمع شيئاً إلا دقات الطبول متواصلة، دئوبة، تئن مع القلب، تصعد مع الروح، لكنها ثابتة، غائرة في صلب الأرض، أسمع وأرى الألوان تتتالى، لون تلو الأخر، تذوب سوياً، ثم ربما لا أسمع، وأنهار، وتنهار الدنيا معي، تتكسر وتهوى ساقطة.. وأصبح ها هنا.. أخيراً..

أشعر بالصمت، بصغر الدنيا، بهدوء في القلب، وحزن غامر يفيض في الروح.. لكني لا أعرف ما هذا الشعور.. ولا أعرف من أنا.. غير أني أعرف أني لست شيئاً مما رأيته.. قد أكون حلماً في خيال أحدهم.. قد أكون شريط ذاكرة لامرأة ميتة.. أو امرأة أخرى تختبئ في أعماقي ولم أحررها بعد..

الخميس، 5 يوليو 2012

الصمت

أحياناً أتمنى لو كنت أستطيع كتابة الصمت الذي يملؤني في أيام كهذه.. لو أني أستطيع ترجمة العدم، واللا حياة.. والخواء.. ثقل الخواء.. الصمت، وتعاليه، وحزنه.. وقوته بلا منازع.. الصمت جائلاً في خاطري، متربعاً في عقلي، ساكناً في عيني، ونائماً في شفتي.. صمت لا ينادي، ولا يشير، ولا يجيب.. هو وحده ولا شيء آخر.. صمت كالذي ينتاب الشوارع فجأة إثر آذان الفجر.. وكالذي يأتي بعد الموت.. وكالذي ينفجر بين الناس في لحظات لا يجدي فيها الكلام.. صمت كنغم العود الشجي، وكصوت الهواء في صباح شتوي باكر كئيب.. صمت كدقات المطر على نافذة بيت وحيد.. كانتهاء الكلام.. كشريط من الذكريات.. وكشاطئ خال..