السبت، 13 مارس 2010

فجر ..


 
كنت في السرير بين ظلام الليل الذي يهيمن على الدنيا بقسوة قبل الفجر.. و كأن الكون دوماً ما يذكرنا أنها "ما ضاقت إلا فرجت" .. كما قال لي أبي دوماً العام الماضي.. مهما طال الليل يا ريم، الشمس دايماً بتطلع.. كانت غرفتي هالة من الظلام اللانهائي إلا من نور طفيف يستوطن أعلى سطح (الكومودينو) بجانبي في دائرة هشة صغيرة تفرشها (الأباجورة) في نعومة.. خفضت النور قبل أن أنام، جعلته خافتاً حتى استطيع الرؤية قليلاً ولا ارتطم بالمكتب أو أقع على الأرض حين أقوم في الليل، فنظري ضعيف جداً.. و في الظلام أنا و المكفوفين سواء.. سمعت أمي تشعل النور في غرفتها و سمعت خطواتها إلى الحمام و خرير الماء.. أنصت إليها تعود و تفتح الخزانة تضع ملابسها على السرير، بينما أنا ما أزال في حضرة النوم، يسمح لي بلحظة يقظة و يغرقني معه في دوامة من الهذيان و الظلام للحظة آخرى..
سمعت القاهرة تفيق من سباتها العميق، تتنفس، يعلو صوت المؤذنين ينبثق من ساعات الصمت الطويلة،  كلهم في آن واحد، بكل تناغم و عذوبة، ايذاناً بفجر جديد.. ابتسمت من بين الظلام و اطمأن قلبي.. فلا يمكن بوجود كل هذا الجمال أن تقسو علينا الحياة أكثر.. و ماضاقت إلا فرجت.. و اطمأن قلبي كثيراً على أمي.. و لم أبكِ.. و من بين أصوات المؤذنين سمعت اصبع المؤذن يدق على (ميكروفون) المسجد بالعمارة التي تقابلنا، يتأكد من صحة الميكروفون كعادته و بدأ يؤذن.. لم أتذمر منه كالعادة بل زادت إبتسامتي.. صوت هذا المؤذن غير طيب بالمرة و في طفولتي كنت أفزع منه و أحياناً ترتعش يداي و اخفي وجهي في غطاء السرير حتى ينتهي من عمله، كنت أمقت اللحظات التي يؤذن فيها بشدة .. فأكره صلاة الفجر و أكره أنهم يوقظونا لنصليها حاضر و أشعر أني سأدخل النار لا محالة و احترق في لهيبها أذوب و أصرخ و الله لا يغفر لي ذنبي فيزيد هذا من هلعي و رعبي .. و في الصباح أشكو المؤذن لكل من بالبيت.. أما هذه المرة فإبتسمت لدرجة الضحك.. و دعوت لأمي و أبي و أختي و لنا جميعاً.. قمت من السرير فوجدت أمي ترتدي ملابسها.. هتوصلي باريس الساعة كام؟ .. لما توصلي رنيلي .. ولما توصلي دبلن كلمينا انتي وبابا .. اخدتي التذكرة؟ .. معاكي الباسبور؟ .. مش عايزة المشط؟ .. هتلبسي ايه؟ .. اعملي ساندوتشات كمان .. اما توصلي باريس رنيلي، اوعي تنسي .. رنيتي لخالو؟ هو صحي؟ .. كان خالي مايزال نائماً فقالت لي أمي خشي وأنا اما اجي نازلة هصحيكي.. وجدتها تمسك بالمصحف فتركتها كما أرادت.. دخلت إلى الغرفة ووضعت الطرحة على رأسي، أمسكت بالمصحف أنا الآخرى وفتحت سورة مريم.. ثم وجدت نفسي أميل على ظهر السرير و أغفو..

بعد لحظات سمعت جرس الباب فقمت مسرعة تقع الطرحة من على رأسي وتنسدل على أكتافي.. وخرجت أختي من غرفتها تغطي شعرها هي الآخرى، تنظر لكل شيء بدهشة و يوجع عينيها النور بالصالة.. أمسكت أمي حقيبة يدها و اقتربت مني تقبلني، أشم رائحتها وأستشعر نعومة وجهها فتتزاحم الدموع في عيني.. وأتخيل أني أرى بعض الدموع العابرة بنظراتها.. تُقبّل أختي و تودعنا.. يلا مع السلامة، خليكوا كويسين مع بعض.. و يأخذ خالي الحقيبة.. ينزلون و ينغلق الباب.. ترحل أمي.. تعود أختي لسريرها، تحتفظ بكل ما بداخلها إلى نفسها و وسادتها.. مثل عادة أمي تماماً.. أما أنا، شريكهم المخالف الذي يخرج كل شيء بداخله، فأدخل إلى البلكونة.. أراها في الأسفل مع خالي فأتمتم آية الكرسي العديد من المرات و أدعو الله أن يحفظها و يسهل لها طريقها و يرحمها و يرضى عنا.. كأنها ابنتي.. التي تذهب لأول مرة إلى المدرسة.. أو التي يأخذها زوجها بعيداً عني بعد كل هذا العمر.. و أجدني أذرف بعض الدمع.. و أدعو.. و يهب النسيم البارد يملأ الأجواء فأبكي.. أبكي و لكن ثمة شيء في الأعماق يطمئنني.. فأبكي و أنا فرحة.. و في لحظات قصيرة أصبحت أمي في السيارة و غابت عن الشارع.. دخلت و صليت الفجر حاضر.. لأول مرة منذ زمن طويل.. و نمت..

ريم
13 مارس 2010


هناك 5 تعليقات:

Marwa Friday يقول...

ربنا يطمئنك عليها يا ريم، ويطمئن قلبها بيكم وبدفئكم، آمين
***
بيعجبني إسلوبك اللون والصوت والحركة، بتحسسيني بإني عايشة معاكِ اللحظة، وده مش سهل
:-)
إلى الأمام يا فتاة
:-)

غير معرف يقول...

مروة ! فرحت قوي قوي قوي لما لقيتك كاتبة لي :))
بجد مبسوطة انها عجبتك
ميرسي يا مروة..
دمت بخير و حب دائماً :)

محمد طاهر يقول...

عندما ينجح أحدهم أن يمسك أصبعك الصغير برفق شاسع المودة ويضعه فوق نبضة من قلبه ، مجسدة كتنهيدة ناي بالغ العذوبة..
أنت لا تملك حينها إلا أن تعيش نبضته هذه كما لو كانت نبضتك
تحسها بعمق
وتحس بنوع جديد من الأخوة
بينك وبين هذا الذي أمسك بإصبعك
أخوة الحس

هكذا أحسست بك يا ريم
جميلة جدا

Lady E يقول...

انا بس جايه أقولك الحمد لله ع السلامة

و وحشتييييييييني ومبروك المدونة الجديدة

ومستنية حفلة توقيع كتابك

غير معرف يقول...

محمد طاهر
سعدت جداً بمرورك على ما كتبت و أسعد أنه نال إعجابك ..
أشكرك
تحياتي :)

ليدي
انتي شكلك كده فاتك حفل التوقيع :(
بس إن شاء الله تتعوض مرة تانية !
المهم، أنا مبسوطة جداً بمرورك النهاردة و في انتظارك مرة تانية ..
تحياتي :)