الأربعاء، 21 ديسمبر 2011

فعجبت، كيف يموت من لا يعشق؟


قابلت احدى صديقاتي أمس فسألتني: ريم، ليه بطلتي تكتبي في المدونة بتاعتك؟ .. فأجبتها بأنه ليس عندي ما يقال، خاصة وسط الأحداث السياسية التي تندلع كل يوم والتي تشغل الناس في المقام الأول، وأنا لا أكتب في السياسة.
ردت علي: لكن دي كانت أكتر حاجة بتعجبني، كنتِ بتخرجيني من جو السياسة. ثم التفتت إلينا صديقة أخرى وقالت لي: أنا كنت بتابعك، صحيح، بطلتي ليه؟
واليوم سألني صديق أيضاً عن جديد كتاباتي..
والحق أني لم أنقطع، بل أظنني أدمنت الكتابة في الأسبوعين الأخيرين، أنكب يومياً على تدوين حياتي، وأفكاري، ومشاعري، كلها، في سلسلة رسائل الكترونية أرسلها إلى نفسي، أحياناً عدة مرات في اليوم.. وأصبحت هذه هي طريقتي الجديدة في كتابة مذكراتي، فبعدما كنت أكتب في الأجندة البيضاء ذات الدب القطبي على غلافها، ثم الأجندة السوداء – التي لم أكتب بها الكثير – ثم الدفتر البني الكبير الذي كنت أهدي فيه كل يومياتي إلى أستاذ العلوم الذي كنت مغرمة به إلى أبعد حد في الإعدادية في ايرلندا، وبعد كتابة مجموعة مذكرات أخرى اقترح بعض الناس نشرها في كتاب قرر مصمم غلافه أن يعطيه اللون الزهري – الذي لا يعجبني اليوم – أصبحت أتوه بين ملفات "الوورد" على جهازي، وأمضي وقتاً أبحث عن الأوراق المتناثرة على مكتبي.. فقررت أن أنتفع بالـ"جي ميل" وأخصص مجموعة رسائل أكتب فيها كل يوم.
أحياناً تكون رسالتي طويلة، وأشعر بنهم لسرد كل تفاصيل يومي وأحاديثي مع بعض الأشخاص، وأحياناً لا أكتب عن نفسي مطلقاً، بل أضع أغنية مثلاً (وهذا من فوائد كتابة المذكرات على طريقة الـ"مالتي ميديا")، وأكتب بعض كلماتها، أو كل كلماتها وأظلل ما يعجبني منها، أحياناً أكتب أبيات من قصيدة.. وأحياناً أشتم، وأشكو، وأغضب، وأبكي..
والجميل في الأمر هو أني أكتب عن نفسي وحياتي بتفصيل، وهو أمر يتعذر فعله على المدونة، ولكني لم أكن أعرف أنه أمر هام لهذه الدرجة.. أو كنت أعرف، لكني لم أعطه حقه أبداً.. فمقدار الراحة التي أشعر بها رائع.. هدوء يطوف غير قلق في الذهن، وسكون يغمر القلب..
ومنذ بضعة أيام، ربما أمس، كتبت في رسالة منفردة بيت أبي الطيب المتنبي:
وَعَذَلْتُ أهْلَ العِشْقِ حتى ذُقْتُهُ . . . . . . . .  فعجبتُ كيفَ يَموتُ مَن لا يَعشَقُ
عندما قرأت هذا البيت أول مرة.. أو بالأحرى عندما سمعته، كنت أجلس في الطابق الأسفل في مكتبة الجامعة، أضع السماعات في أذني بعدما قررت بدون داع أن أكتب أسماء الشعراء الذين ذكرهم الأستاذ في محاضرة الأدب العربي ذلك اليوم، في محرك "اليوتيوب" وكأني سأجدهم يطلون عليّ بشحمهم ولحمهم، بصوتهم العميق، وعيونهم المسافرة في الصحراء..
 لم أجدهم، لكني – وربما لدهشتي – وجدت الكثير من المقاطع المسجلة بأداء غاية في الجمال للمعلقات ولمختلف القصائد العربية الشهيرة.. ووجدت مقطع اسمه "أرق على أرق" للمتنبي، جذبني العنوان وأخذت أسمع القصيدة، ولم ألبث كثيراً حتى رسا عندي هذا البيت.. فأعدت سماعه.. مرة.. ومرات.. حتى وقعت في غرامه.
ربما أنا مجنونة، ربما أنا إنسانة "مبالغ فيها" (وطبقاً لبعض العارفين باللغة فـ"إنسانة" كلمة لا وجود لها، لكني أحب الاحتفاظ بالتاء المربوطة.. وياليتهم لم يسموها "المربوطة".. لكن حتى شكلها للعين يبدو مربوطاً..) على أية حال، يمكن أنا بني آدمة مبالغ فيها، لكني حقاً وقعت في غرام هذا البيت: فعجبت، كيف يموت من لا يعشق؟ وكأن الموت، الموت الحقيقي، الذي لا يتحقق إلا بحياة حقيقية، لا يقتنص إلا أرواح العشاق، العشاق الذين يهز شغفهم كيان الكون.. الذين تتقد قلوبهم بمن يحبون، بما يحبون.. الذين يتنفسون حبهم، الذين يشطر حبهم روحهم نصفين، الذين يسكرهم حبهم، ويكسرهم، ويقتلهم ويحييهم.. الذين يعيشون على رمق هذا الحب إلى الأبد..
أنا لم أقع في غرام الرجل الذي سأشاركه عمري بعد.. ربما أقابله بعد ثلاثين عام.. أو عشرة.. أو ربما أنه هنا، وأنا لا أراه.. لا يهم..
وربما أن المتنبي كتب هذه الأبيات في حالة وجد أصابته بها امرأة ما وقع في شباك عينيها، لكنه بالتأكيد لم يكتب ذلك الشطر الثاني "وعجبت، كيف يموت من لا يعشق؟" فقط تعبيراً عن ولعه بتلك الحبيبة.. ففي هذه الكلمات القليلة ربما لخص هذا العبقري الوجود كله ..
الموت الحقيقي لا يقتنص إلا أرواح العشاق الحقيقيين.. والعشاق الحقيقيون ثائرون، حالمون، مثابرون.. ثائرون في الحلم، وفي المعنى، وفي المبدأ.. وفي العمل.. وفي العشق عندما يحين.. يعيشون الحياة، أو يعيشون ما يؤمنون به بكل جوراحهم.
وبينما تغني أم كلثوم في أذني الآن "خبيني من الزمان.. خبيني.. وبعيد عن عيونه داريني.." أشعر أنه ربما بجدر بها ألا تطلب من حبيبها أن يخبئها من الزمان، بل عليها أن تدرك العشق الذي سيغير الزمان كله..
عيشي بشغف.. فعجباً لكِ تخشين موتاً.. وهو نصف موت.. لأنك لا تعيشين الحياة التي خلق الله الروح لها..

-- وربما أن المتنبي لم يكن يعني إلا أن العشق وحده هو الذي يصيب الناس بالموت لما يصيب المغرمين من وجد.. لكن لم يكن لشعره أن يعيش كل هذه السنين لو كان يعني ذلك فقط! ولو حتى دون إدراك مباشر منه..

(لقراءة شرح قصيدة المتنبي اضغط هنا)

ليست هناك تعليقات: