الثلاثاء، 19 يونيو 2012

كتابات عفوية 1: ذكريات ايرلندية



وأدتها طيلة الأعوام الثلاثة الماضية، وأدتها في ذاكرتي، تحت طبقات كثيفة من كل ما أعرف، وكل ما أذكر، وكل ما أشعر به في هذه الدنيا، فبدت وكأنها غير موجودة، وكلما أردت استحضارها فجأة، أجد سواداً يملأ عقلي ولا أذكر شيئاً، ربما جزء من بيت عشت فيه، طيف من خضار، لكن لا شيء أكثر. ولا كأني كبرت على هذه الجزيرة الكبيرة، أو أني وعيت على الدنيا هناك، ولا كأني تعرفت على معنى المطر، ومعنى اللون الأخضر، ومعنى الموسيقى، ومعنى بلادي التي تركتها، ومعنى الغربة والناس وحكاياتهم هناك، ولا كأني أمضيت سبعة أعوام من عمري في ايرلندا، أعوام المراهقة، أعوام تفتح العيون على العالم، في هذا البلد الأخضر، قطعة الزمرد التي تتزين بها أوروبا على جانب رأسها الأيسر.. 

وأدت ايرلندا فظننت أني نسيتها ولم أعد أتكلم عنها، أو عن أي شيء يربطني بها، وكنت أنسى أحياناً أني عشت هناك، أو أتناسى، ولا تأتي ببالي إلا نادراً، وأستغرب من أصدقائي الذين يفاجئوني بقولهم: هل كنت تعيشين في الخارج فعلاً؟! .. فأستغرب أني لم أخبر الكثيرين بالأمر.. ولا أعرف هل كان بدافع غضبي تجاه ايرلندا - لأني كنت (وخاصة في العام الأخير) أريد تركها بأي شكل - أم كان بدافع الرغبة المستميتة في الاندماج في مجتمع خفت أن يرفضني، فرفضت أن أفصح له عن كل ما عندي، وادعيت أني لا أختلف كثيراً عن الباقين، أم هل لأني لم أجد لها حيزاً مهماً في حياتي.. ايرلندا..

لكني ولسبب ما اليوم، سمعت مقطوعة ايرلندية فوجدتني - دون سابق إنذار - أتوقف عن الزمن لحظة، أشعر بعضلات عقلي وكأنها تنفك، تنفرج عن شيء حبس داخلها طويلاً، وذاب قلبي وسال وكأنه يتدفق حنيناً .. حنيناً كبيراً عنيفاً يحتج على ذات العقل اليابس التي حبسته ومنعته عن مكان هو - لا إرادياً - يرتبط به. ولا أعرف لماذا ظهر نذير مفاجئ في عقلي، نذير قديم، أعرفه منذ الطفولة، يقول لي وكأنه إحدى بطلات مسلسل شامي: يا عيب الشوم. كنت أرفض أن ارتبط عاطفياً بايرلندا وأهلها والمدن الأربع التي عشت فيها حياتي هناك، كنت أرفض أن أقول: ايرلندا هتوحشني... ربما صور لي عقلي آنذاك أني بذلك أخون هويتي المصرية، أو أواجه نفسي بحقيقة أني أحب هذا المكان الذي لطالما تمنيت أن أتركه لأعود إلى بلدي.. الذي لم أعش فيه في الحقيقة بقدر ما عشت خارجه.. ولا أعرف لماذا أتاني هذا النذير عندما كادت تدافع الدموع إلى عيني وأنا أسمع المقطوعة، وكنت أريد أن أضحك من نفسي: كم كنت مغفلة!

لم أكره هذه الجزيرة الخضراء أبداً، لم أكره هذه الموسيقى الرائعة أبداً، لم أكره المطر طيلة العام، والشواع الهادئة، والناس - الكثير منهم - الطيبين.. نعم، كنت أكره سكون الليل القاتل، السكون الذي كان يشعرني وكأن الدنيا انتهت، الذي كان ينفذ إلى أذني ليشعرني أن القيامة ستقوم لا محالة، كنت أرتعد في طفولتي من زمجرة زجاج نافذتي وقت العواصف الممطرة، لكني تعودت عليها، ونعم كنت أتلقى المضايقات - أنا وأمي والكثيرات من السيدات والرجال أيضاً - لأننا كنا مسلمات عربيات ومنا الكثيرات المحجبات.. وكنا قد ذهبنا إلى هناك بعد أحداث سبتمبر بعام واحد.. وكنت أكره الشهور الأولى، وكنت أكره التنقل كل عام، مدرسة جديدة كل عام، وبيت جديد، وشوارع جديدة.. وكنت لا أرتاح للبنات العربيات اللاتي كن أقرب لايرلندا من بلادهن، مني.. واليوم استغرب: فأنا لم تكن ظروفي مختلفة كثيراً عنهن، لقد عشت أيضاً كل حياتي خارج بلدي.. لكني - لسبب ما - ظللت متشبثة بها، بلغتها، بملبسها، بحياتها، كان لأمي وأبي دور كبير في هذا.. لكني أيضاً كنت أتشبث أكثر من اللازم.. أو أكثر من غيري.. ولا أعرف لماذا..

أذكر بعض الأيام في كاسلبار - مدينة استطعت فيها الاندماج مع مجموعة من البنات الايرلنديات - وكانت حلوة هذه الأيام. كنا نخرج من المدرسة في وقت الغداء كل يوم أربعاء، نرتدي معاطفنا ونخرج للمطعم الصغير المجاور، نطلب بطاطس بالكاري وبيبسي، وكانوا يبيعونا اياها بسعر خاص للطلبة: 2 يورو ونصف، وكنا نجد هناك طلاب مدرسة الصبيان، كان البنات يسترقن النظر لهم، لكنهم كانوا - بطبيعة الحال - لا يمثلون لي شيئاً، هؤلاء الشباب الايرلنديين.. ثم كنا نأخذ وجبتنا الساخنة ونمشي على أرجلنا حتى محل أهل ماري، كان محل لقطع الزينة المنزلية في وسط البلدة بالقرب من المدرسة، كنا نصعد إلى العلية في المحل ونأكل، نشاهد على الناس من الزجاج، ربما طلاب آخرين أو  بعض معلمينا خرجوا أيضاً وقت الغداء.. وكان في العلية بيانو نلعب عليه أحياناً ما تعلمناه في حصص الموسيقى.. غالباً كانت ماري هي التي تلعب.. وفي مرة أقمنا عيد ميلاد ميشيل هناك، شاركتنا اياه والدة ماري، أذكر أني كنت أضحك يومها كما لو أني شربت خمراً لتوي، وكانت ميشيل أيضاً تضحك كثيراً.. وكان لدى أهل ماري كلب صغير اسمه تشارلي.. كنت أخاف منه وكانوا يضعونه في غرفة أخرى عندما آتي.. ثم نعود للمدرسة.. وأحياناً كانت تمطر علينا في الطريق فنجري، وكانت مدرستنا على تل صغير، بجانب دير للراهبات وكانت هناك مساحات خضراء شاسعة على الجانبين.. كنا نجري ونجري.. ونصل مبتلات تماماً..

هنا في مصر لا أذكر عادة هذه الأشياء.. ولا أعرف لماذا..

هناك 3 تعليقات:

Noha يقول...

:) متشوقة للجزء التانى

Sperrmüllentsorgung Wien يقول...

شكرا على الموضوع

usa proxy يقول...

شكرا لك على الموضوع

usa proxy

free proxy

web proxy list