الخميس، 28 يوليو 2011

كرسي المشاهدة


عندما كنت طفلة صغيرة كنت أتجول في أحد المحال مع أبي وإذا به فجأة يذهب تجاه مجموعة من اسطوانات الموسيقى الكلاسيكية، ويخاطبني في دهشة "تصوري! خمس اسطوانات للروائع العالمية بثمن زهيد جداً!" واشتراها أبي وكنت في ذلك الوقت أرى إهتمامه بالموسيقى "الكبيرة" التي يسمعها كما أرى مراجع الطب الكبيرة أيضاً التي كان يحرص على متابعتها، ويقضي الليالي على قراءة ما ضمته جلدتاها السميكتان.. كانت المراجع بالنسبة لي، كما الموسيقى، بعيدة، معقدة، ولأبي فقط..

وفي يوم قررت "أدعبس" في هذه الاسطوانات التي راق لي منظر صور الرجال المتأنقين عليها، وخاصة تشايكوفسكي صاحب العينين الصافيتين والشارب الأبيض المرتب بعناية، وسمعت الاسطوانة تلو الأخرى وتابعت أسماء المقطوعات.. حتى بدأ أبي يسابقني في معرفة اسم المقطوعة ومؤلفها، ثم زاد إهتمامي بالموسيقى وأصبحت كثيراً ما أهزم أبي.. واخترت دراسة الموسيقى في المدرسة لمدة عامين، وتعلمت العزف على البيانو، وكنت كثيراً ما ألجأ لهذه الاسطوانات، يشاركني الغاضب منها لحظاتي الثائرة، ويداعب العذب منها قلبي الصغير، ويثير بعض الدموع في عيني الرائع منها الذي يسمو بي بعيداً عن الدنيا، وأغيب في لحظات من التيه والوجود أنسى فيها نفسي، ليتجلى كل ما هو رائع، كل ما هو صعب المنال، كل ما هو شجي، وبعيد، وجميل.. 

من أكثر ما أحببت كان "الهابانيرا" من كارمن لبيزيه، و"الأمير الشاب والأميرة الشابة" من شهرزاد لرمسكي كورساكوف، وسوناتا ضوء القمر لبيتهوفن، وكونشرتو البيانو رقم 1 في "سلم ري بي مول صغير" (كما ترجمها لي مذيع في البرنامج الموسيقي ذات مرة)، ومقطوعة الصباح لجريج، وكونشيتو البيانو رقم 2 "آديجو سوستينُتو" لراخمانينوف، ولا ترافيّتا لفيردي.. وغيرها..

وربما لأي متخصص بالموسيقى تنم هذه الاختيارات عن معرفة غير واسعة.. وهذا لا أنكره.. لكني كتبت ما كتبت لأني أدركت أني مللت الجلوس على كرسي المشاهدة! كما ربما – دون أن أعي – مللت سماع هذه الموسيقى تنبعث عن بعد من مكتب أبي، وقررت أن أكتشفها فإنفتح لي ذلك العالم الموسيقي، وراق لي كثيراً، وربما لولا تلك اللحظة لما تعلمت بعض مبادئ الموسيقى في المدرسة، ولما شعرت الآن أني أريد استكمال دروس البيانو، ولما كنت أنتظر عروض الباليه في الأوبرا بشغف، وحفلات الموسيقيين في كل مكان بمختلف ما يعرضونه من ألوان هذا الفن..

مللت الكتابة عن أنشطة الآخرين، مللت الكتابة عن أمنياتي، مللت الحديث عن ذلك المكان الرائع، أو المستقبل الذي سأحقق فيه الكثير.. لأني وجدت نفسي الآن في مستقبل كنت أتخيله منذ عام أو عامين أو أكثر، وانتهى بي الأمر أني مازلت أرسم مستقبلاً غير الذي أحققه، ووجدت نفسي على كرسي المشاهدة: أرى الجميع يذهبون ويجيئون، وأحرك شفتي أو قلمي، ولكني أظل مكاني..

وللحظة أدركت أن جلوسي قد يكون سببه عدم وضوح الرؤية، أو الكسل، أو الخوف من التجربة.. ولأني أعلم جيداً مدى الرعب الذي يسببه لي أي شيء أقوم به، مدى القلق عند البوح برأيي، ومدى عدم رضاي عن عملي وإن رضي عنه من حولي، وميلي للمكوث دائماً في مقعد هادئ للمتابعة عن بعد.. لأني أعلم أن تلك المشاعر الطفولية لن تحقق لي أي شيء، ولأني بدأت أشعر بالملل من حياتي بأكملها.. أردت أن أتوجه لفعل ما أحب، وأن أخطئ (حتى وإن كنت أشعر بعدم ارتياح وأنا أكتب هذه الكلمة وأتخيلها في عقلي).. وأن أخطئ، ثم أتعلم، وأن استمتع بذلك، وأعيش هذه الحياة بكل ما فيها..

وربما هناك شخص ما مثلي في مكان ما.. ولهذا كتبت هذا المساء..